الجهات الدينية الفاعلة: أمل المنكوبين ومأوى المحتاجين
لطالما كانت المدينة منصة لتفجير الطاقات البشرية. إذ إنها تسهم في عرض الأفكار والمعتقدات المتنوعة، مما يوسع إدراكنا لكل ما هو ممكن. كما أنها تحفز التعاون الذي بدوره يعزز الابتكار الثقافي والاقتصادي. كما أن المدينة تمثل فرصة الكثير من الأفراد لتحقيق أحلامهم والسعي لحياة أفضل. ولكن، ومع كل ما توفره المدينة، إلا أن لها سلبيات تخلق مشاكل وتحديات أيضا.
في عام 2008، كان عدد الأشخاص الذين يعيشون في المدينة أكبر من عدد الذين يعيشون في الريف، وكانت هذه ظاهرة غير مسبوقة. وبحلول عام 2050، من المقدر أن يعيش ما يقارب ثلثي سكان العالم في المدن. ويؤدي هذا التَّمَدُّن السريع إلى اكتظاظ الأحياء الفقيرة والمستوطنات العشوائية التي تضم أكثر من مليار شخص في جميع أنحاء العالم، كما يؤدي إلى إجهاد خدمات المدينة والبنية التحتية. ومن المعلوم أن معظم سكان الأحياء الفقيرة يعملون في القطاع غير الرسمي ويفتقرون إلى السكن الملائم والمياه الجارية والصرف الصحي وأنظمة إدارة النفايات والنقل العام ومرافق الرعاية الصحية. ولقد جعلتهم هذه الظروف السيئة عرضة بشكل خاص للآثار المدمرة لجائحة كوفيد-19.
من جانب آخر، يؤدي الاكتظاظ والازدحام إلى تلوث الهواء الذي يتسبب بدوره في أكثر من أربعة ملايين وفاة مبكرة كل عام، كما أنهما يؤديان إلى الزحف العمراني الذي يهدد البيئات المحلية. من هذا المنطلق، فإن المساحات العامة المفتوحة مثل الحدائق والشواطئ تمثل أمرًا حيويًا لصحتنا البدنية والعقلية، رغم أنها لا تمثل سوى جزء صغير من الأراضي المخصصة لمعظم المدن. ومن سلبيات هذه المساحات المفتوحة أيضا أن الوصول إليها سيرًا على الأقدام وحتى بوسائل النقل العام أمر غاية في الصعوبة.
وقد أصبح جليا أن للتمدن أوجه قصور، غير أن بصيص الأمل الذي يلوح في أفقه يجعلنا متفائلين. فإن عزمنا على تصميم وتنفيذ سياسات تنموية في أوقات مناسبة ومدروسة، فإن بإمكاننا إحداث تغيير مستدام يفيد الأغلبية المتمدنة وباقي الكائنات الحية على حد سواء.
إن الهدف 11 من أهداف التنمية المستدامة يرمي إلى جعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة وآمنة ومرنة ومستدامة. ولتحقيق هذا الهدف وإنجاحه، تعمل هيئات الأمم المتحدة وشركاؤها مع المجتمعات المحلية لضمان حصول الجميع على السكن الملائم والميسور التكلفة والاستفادة من النقل والخدمات الأساسية الأخرى. وهذا يعني ترقية الأحياء الفقيرة باستخدام مواد ذات كفاءة في استخدام الموارد والمصادر المحلية وتوسيع وسائل النقل العام وتحسين إدارة النفايات وجودة الهواء. كما يصبو هدف التنمية المستدامة رقم 11 أيضًا إلى حماية التراث الثقافي والطبيعي وتسهيل الوصول إلى المساحات الخضراء والعامة وتقليل الآثار السلبية للكوارث. ويتطلب تحقيق هذه الأهداف مدخلات ديمقراطية لضمان أن الحلول المحلية تلبي احتياجات المجتمعات.
وتدرك المؤسسات والمنظمات القيم الدينية أن المأوى الملائم هو حاجة إنسانية أساسية وشرط أساسي للتمتع بالحقوق الأخرى. على هذا النحو، فقد قدمت هذه الهيئات منذ فترة طويلة حلول الإسكان الآمن للمجتمعات الضعيفة، كما أشرفوا على جهود الإغاثة أثناء الأزمات والكوارث، وأبرز هذه الهيئات:
الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر هي شبكة إنسانية عالمية، تساعد الأشخاص الضعفاء الذين يواجهون الكوارث على تلبية احتياجاتهم وتحسين حياتهم. ويجلب أعضاء هذه الحركة إمدادات الإغاثة والخدمات الطبية والمأوى والراحة للأسر المتضررة من الأزمات والنزاعات، كما أنها تساعد المجتمعات المعرضة للخطر، وذلك من خلال مهاراتها وخبراتها في إنقاذ حياة البَشَر، كما تساعدهم على وضع خطط طوارئ للبقاء في أمان.
أما المؤسسة الخيرية البوذية تسو تشي فتعمل على التخفيف من حدة الكوارث أينما وقعت، حيث يقوم متطوعوها بإعادة بناء المنازل والمدارس والمستشفيات ودور العبادة، وتوفير الملاجئ الحيوية، حيث يمكن للعائلات والمجتمعات النوم والتعلم والصلاة. وتشجع هذه المؤسسة إعادة التدوير لتحسين استدامة أنظمة إدارة النفايات، كما أنها تدير آلاف المحطات التي تحول الأغراض المصنوعة من البلاستيك إلى بطانيات وملابس وأردية طبية تُستخدم في جهود الإغاثة التي تبذلها المؤسسة في حالات الكوارث.
وفيما يتعلق للمنظمة الكنسية للمعونة الدانماركية، فهي تساعد ملايين الأشخاص على عيش حياة كريمة، حيث تقدم هذه المنظمة إغاثات فورية في المناطق المنكوبة ومساعدات إنمائية طويلة الأجل في المناطق الفقيرة، لمساعدة المجتمعات على إدارة المخاطر والتكيف مع آثار تغير المناخ. كما تتعاون هذه المنظمة بشكل وثيق مع الشركاء المحليين لضمان مشاركة المجتمعات في بناء قدرتها على المجابهة والصمود أمام التحديات. وعندما أدى انفجار بيروت في أغسطس إلى تشريد 300,000 شخص، تدخلت هذه المنظمة لتوفير المأوى والغذاء ومستلزمات النظافة والمساعدات النفسية والاجتماعية والمال لتغطية الاحتياجات الأساسية.
إن المنظمة الكنسية للمعونة الدانمركية عضو في تحالف الكنائس للتنمية، وهو تحالف عالمي من المنظمات الدينية والكنائس التي تعمل في 140 دولة لمكافحة الفقر ودعم الناجين من الكوارث والنزاعات ومساعدة الناس على التكيف مع تغير المناخ وحماية حقوق الإنسان. ساعد أعضاء هذا التحالف، بما في ذلك الاتحاد اللوثري العالمي، في إعادة بناء مئات المنازل في نيبال بعد أن دمرت الزلازل قرى بأكملها في عام 2015. كما يوفر عضو آخر في هذا التحالف، وهو الكنيسة المساعدة للعمل الاجتماعي (CASA)، المأوى والطعام ومياه الشرب الآمنة لضحايا الفيضانات في الهند.
وعلى صعيد آخر، تستجيب منظمة المعونة الإسلامية للكوارث والأزمات الطبيعية في أكثر من 70 دولة، وتبني منازل آمنة للضحايا والأرامل الضعفاء والأيتام. حيث تحتوي هذه المنازل على مواد ذات كفاءة في استخدام الموارد ومصادر محلية تتكيف جيدًا مع البيئة المحيطة. وفي كثير من الحالات، يقوم القرويون ببناء أساسات منازلهم، لتكمل منظمة المعونة الإسلامية باقي البناء، مما يمنح المجتمعات المحلية الوكالة والملكية.
إن الحصول على سكن آمن وبأسعار معقولة ضروري لازدهار العائلات والمجتمعات. ولهذا تنشط المنظمة الدولية لموئل من أجل الإنسانية في 70 دولة لتزويد ملايين الأشخاص المحتاجين بمكان لائق للعيش. وقد جعلتها هذه الجهود أكبر شركة بناء غير هادفة للربح في العالم. ويعطي الموئل الأولوية لكفاءة الطاقة والاستدامة في عمله، مما ينتج عنه منازل صديقة للبيئة تتضمن مناهج مبتكرة للتهوية والضوء الطبيعي والمياه والصرف الصحي.
وتتعهد أغلبية منظمات القيم الدينية التي تقدم خدمات الإغاثة في حالات الكوارث على بناء مدن ومستوطنات بشرية مستدامة بمساعدة جميع المحتاجين، بغض النظر عن الانتماء الديني أو الخلفية الثقافية. كما أنها تحاول التنسيق بين الأديان ووكالات التنمية العلمانية لخدمة الإنسانية على أفضل وجه. ولا شك أن هذا النهج الشامل والمشترك بين القطاعات هو وسيلة ناجعة لتحقيق الهدف رقم 11 من أهداف التنمية المستدامة وضمان تمتع الجميع بظروف معيشية آمنة وكريمة.