أحد أهمّ الأسئلة التي تطرحها النوازل المعاصرة، هو عن العلاقة بين الأديان، توحيديّةً كانت أم وضعيّةً، وحالة السلام العالميّ، التي تبدو في تدهور على صعيدٍ أمميّ وإقليميّ.
في تلخيص أوّليّ وجوهريّ لمفهوم السلام، يمكن القول إنّه الحالة المقابلة للحرب والعنف، وهو كذلك سيادة أجواء الطمأنينة والسكينة والهدوء، عوضًا عن الخوف والقلق والاضطراب. والسلام هو الضدّ للخصام، والمفهوم المفارق للعنف اللفظيّ والجسديّ، سواء كان ذلك بين الأفراد أو الجماعات والدول.
والشاهد أنّ الأصل في كيان الإنسان هو السلام، غير أنّ القتال وُجِد على وجه الكرة الأرضيّة منذ أن كانت الأسرة البشرية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولاحقًا تطَوَّر المشهد إلى الصراع بين الإنسان والبيئة، وفقدت الأرضُ سلامَها، وهناك مروِيّات تاريخيّة عن الأعمال العدائيّة التي ارتكبها الإنسانُ الأوّل في قارة أطلانطيس ما أدى إلى ثورة الطبيعة فيها، فاحترقت وغرقت بمن عليها من البشر جزاء مخالفة النواميس الطبيعية لاحترام الإنسان لأهمّيّة وكينونة أخيه الإنسان، عطفًا على الأرض المُستخلَف فيها.
منذ ذلك الوقت، كان الإنسان يسعى للسلام، غير أنّه عادةً ما كان يوحل في الحرب، ولهذا فإنّ حلم السلام الدوليّ تجَلّى في كتابات الآباء الأوّلين بصورة تنزع ناحية المدينة السماويّة بأكثر من محاولة إدراك مدينة الأرض العالميّة التي تسودها قيمُ ومفاهيم العدالة والمساواة والإخاء.
في هذا السياق يكتب أوغسطينوس، الفيلسوف والمفكر الامازيغِيّ الأصل، عبر كتابه أو بالأحرى موسوعته الخالدة مدنية اللهDe Civitate Dei يقول إنّ الحرب حالة عَرَضيّة ستزول حين يستطيع مجتمع الإيمان أن يقهر عَبَدة الشيطان ويحقّق السلام الأبديّ.
وفي ثنايا حديث أوغسطينوس عن القيم الأوّليّة للسلام يشتَمُّ المرءُ رائحة عزوفه عن القول بوجود تلك المنظومة القِيمِيّة على الأرض بالمرة، ويجزم بأنّ المدينة الأرضية لا تعرف السلم لكونها مدينة الملذات والشرور، وأن حالة السلام المطلقة لن يجدها الإنسان الفاضل إلا في مدينة الله، التي هي النموذج الأمثل للإنسانية جمعاء.
لماذا يذهب اوغسطينوس هذا المذهب، وهل في نموذج مدينة الله هذا مفتاح لمفهوم السلام وقِيَمه التي يجب أن تتوافر على الأرض حال أردنا انتشار سلام حقيقيّ لا براجماتِيّة سياسِيّة مُؤقَّتة، أقرب إلى الهدنة، وهذا بالفعل الذي جرى بعد الحرب العالميّة الأولى ثمّ الثانية، وكاد أن يتكَرَّرَ بشكل آخر خلال الحرب الباردة، ولا يزال يتكرر حول العالم، من خلال حروب إقليمية صغيرة ومتنوعة، وإنْ بات اليوم هناك هاجس بأنّها ستَتَّسِع رقعتُها بشكل أو بآخر لتُهَدِّد سلام العالم؟
عند أغسطينوس القديس والفيلسوف، أنّ مدينة الله تُغَلِّفها العناية الإلهيّة وتحيط بها من كلّ جانب.
أمّا عن أبواب المدينة الكثيرة، فمفاتيحها مُعلَّقة في مبادئ العدل والخير، الحوار والجوار، وحب الخير للآخر، وفي اتّساق دائم أبديّ مع النظام والغاية والعَمَد المبنية عليها، والأسس المرتكزة إليها قوامها الفضيلة الخاصة.
والشاهد أنه حتى قبل أن تتنَزَّل الأديان على الأنبياء كانت الفطرة الطبيعية التي خُلِقَ الإنسانُ عليها تُؤَكِّد رفض القتل والاقتتال، وضرورة تعلية مفاهيم السلام.
وليس من دليل على ذلك أفضل من الوصف التفصيلي للمعركة الأولى في تاريخ الإنسان، عندما اقْتَتَل ابنَيْ آدم واستطاع قابيل قَتْل أخيه هابيل. في ذلك الوقت لم تكن هناك نواميس أو شرائع وضعِيّة، غير أنّ الناموس الفطريّ الأَوَّل الذي تسَلَّمَه آدم عليه السلام، وبالضرورة سَلَّمَه إلى ولدَيْه، كان يحوي حصريًّا حَثًّا على العيش بسلام، وتجريمًا للعنف والخصام. ولهذا فإنّه غداة فِعْلته النكراء المتمثلة في قتل أخيه، فَرَّ هاربًا من على وجه الأرض حتى لا يقتله كلُّ من يجده، ووضع على جبينه علامة لهذا الغرض.
وبتسلسل ظهور الأديان، يجد المرء مكانة واضحة لفكرة السلام العالميّ في كلّ دين، على أساس أنّ مصدر الأديان التوحيديّة واحدٌ، وهو إلهٌ مُحِبٌّ للسلام رئيس للسلام، والسلام اسم من أسمائه الحسنى المائة.
والثابت أنّه في عقيدة كل يهوديّ ومسيحيّ ومسلم، لا يستقِرّ العالمُ في نفسه، بل يصدر في كلِّ لحظة من الخالق سبحانه ومن قدرته اللاهوتية الإلهية. وما يفعله الإنسان كجزء من الخليقة هذه عليه أن يُؤَدِّي عنه حسابًا أمام خالقه الذي سيرجع إليه.
هذا الإيمان يربط بين المسيحيين والمسلمين واليهود، في نطاق عميق مشترك، وإن اختلفوا في قضايا أخرى. هذا النطاق الذي نحن بشأنه نطاقٌ مشترَك أعظم وأعمق من كلِّ ما هو مختلف بينهم ... هل من نتيجة أوّلِيّة ما لهذا الإقرار المبدئيّ؟
دون جدال، يمكننا القول إنّ هذا الإيمان يعترف بأنّ الله هو وحده الإله الحيّ القَيّوم، وهو مصدر السلام. لذا، فإنّ كلّ شيءٍ آخر، وأيّ قيمة أخرى مضادّة للسلام، أو تحاول أن تُنَصِّب نفسها شيئًا مطلقًا، تُعَدُّ طاغوتًا مرفوضًا، يتوجب على أتباع التوحيد لا مساءلتها فحسب، بل الإعراض عنها والعمل بجِدّ في مواجهتها، لأنّ الإيمان الذي تَحُثُّنا عليه المسيحية والإسلام وحتى اليهودية، هذا الإيمان يقول إنّ الله هو الحقيقة المطلقة الواحدة والوحيدة، وكلَّ ما سواه نسبِيٌّ يأتي منه كمخلوق ويعود إليه في مصيره.
هل الأديان مصدر مقاربة أولية للسلام بين البشر؟
المقطوع به أنّه رغم وجود فروق واختلافات بين الأديان الثلاثة التوحيديّة، في تقرير الحاجيات والتحسينات التي تحتاجها الإنسانية، إلا أنَّ ثلاثتها تتفق على ضرورات كانت ضمن رسالة كلّ نبيّ، وهي:
وقد جعلوا من هذه الضرورات أصلاً للحاجِيّات والتحسينات والتكميلات.
إنّ هذه الضرورات تصلح كبناء لتصور مشترك لثقافة السلام؛ ذلك لأنّها أساس كلِّ سلام، وبدونها لا يتحَقَّق السلام، لا السلام مع النفس، ولا السلام مع الجار، ولا السلام بين الأمم.
ولا يتَوَقَّف الأمر عند هذا فقط، بل إنه بالإمكان تأسيس رؤية جديدة سلمِيّة وسليمة للمشاكل والتحديات التي يواجهها الضمير الدينيّ والأخلاقيّ في عصرنا والتي تُغَذِّي الخصام وتنزع السلام.
يخلص المرء من تلك الأسس إلى أنّ الدين هو المرجع الأساسيّ والرئيسيّ في ترسيخ مفهوم السلام العالمي والذي لن يتحقق إلا من خلال دعوة ربّانيّة لا اجتماعِيّة، فالدين يصبح أكثر تحَرُّرًا من التوظيف البشري عند وجود الوازع والرادع الغيبيّ.
وممّا لا شكَّ فيه أنّ رسالة الأديان كافَّةً دون تخصيص هي رسالة سلام، فهي تسليم لله تعالى بالوجود، وتسليم لقانونه ونواميسه الإلهِيَّة بالاحترام والتقديس والالتزام.
من هذه الضوابط "السلاميّة" للأديان إن جاز صك هذا المصطلح، يتكَشَّفُ للمرء أنّ كافة خطوط وخيوط القوانين واللوائح والشرائع الوضعية محَلِّيَّةً كانت أو دولية، إنما وُجِدتْ من أجل تعزيز السلام بين المرء وخالقه والإنسانية وبعضها البعض، وكذلك بين الدول والقارات حول البسيطة، ما يعود بنا إلى الأصل، أصل مدينة الله، وإنْ بَعُدَ عنها الإنسانُ بفعل أوهام السيطرة وصبغ أو محاولة صبغ الزمان والمكان ببصمة استعلائية لا تَتَّسِق والمشيئةَ الإلهية في استخلاف الإنسان للأرض وجعله قَيِّمًا عليها منذ خلقه وحتى قيام الساعة.
هل من خلاصة؟ نعم، الأديان طريق لتعبيد السَّيْر الإنسانيّ المشترَك نحو السلام والوئام، لا الحروب والخصام.
إميل أمين - المستشار الاعلامي للأمين العام لكايسيد